الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا} بغير حق يوجب قتله أو يبيحه للقاتل حتى أنه لا يعتبر إباحته لغير القاتل فقد نص علماؤنا أن من عليه القصاص إذا قتله غير من له القصاص يقتص له ولا يفيد قول الولي أنا أمرته بذلك إلا أن يكون الأمر ظاهرًا {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ} لمن يلي أمره من الوارث أو السلطان عند عدم الوارث، واقتصار البعض على الأول رعاية للأغلب {سلطانا} أي تسلطًا واستيلاء على القاتل بمؤاخذته بأحد أمرين القصاص أو الدية، وقد تتعين الدية كما في القتل الخطا والمقتول خطا مقتول ظلمًا بالمعنى الذي أشير إليه وإن قلنا لا إثم في الخطا لحديث: «رفع عن أمتي الخطأ» وشرع الكفارة فيه لعدم التثبت واجتناب ما يؤدي إليه فليتأمل.واستدل بتفسير الولي بالوارث على أن للمرأة دخلًا في القصاص.وقال القاضي إسماعيل: لا تدخل لأن لفظه مذكر {فَلاَ يُسْرِف} أي الولي {فّى القتل} أي فلا يتجاوز الحد المشروع فيه بأن يقتل اثنين مثلًا والقاتل واحد كعادة الجاهلية فإنهم كانوا إذا قتل منهم واحد قتلوا قاتله وقتلوا معه غيره، ومن هنا قال مهلهل:
وإلى هذا ذهب ابن جبير وأخرجه المنذر من طريق أبي صالح عن ابن عباس أو بأن يقتل غير القاتل ويترك القاتل.وروى هذا عن زيد بن أسلم؛ فقد أخرج البيهقي في سننه عنه أن الناس ف يالجاهلية إذا قتل من ليس شريفًا شريفًا لم يقتلوه به وقتلوا شريفًا من قومه فنهى عن ذلك بأن يزيد على القتل المثلة كما قيل.وأخرج ابن جرير وغيره عن طلق بن حبيب أنه قال: لا يقتل غير قاتله ولا يمثل به، وقيل بأن يقتل القاتل والمشروع عليه الدية.وأخرج ابن أبي حاتم وغيره عن قتادة أنه قال في الآية: من قتل بحديدة قتل بحديدة ومن قتل بخشبة قتل بخشبة ومن قتل بحجر قتل بحجر ولا يقتل غير القاتل.وفيه القول بأن القتل بالمثقل يوجب القصاص وهو خلاف مذهبنا.وقرأ حمزة والكسائي: {فَلا} بالخطاب للولي التفاتًا، وقرأ أبو مسلم صاحب الدولة {سلطانا فَلاَ يُسْرِف} بالرفع على أنه خبر في معنى الأمر وفيه مبالغة ليس في الأمر {إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} تعليل للنهي، والضمير للولي أيضًا على معنى أنه تعالى نصره بأن أوجب القصاص أو الدية وأمر الحكام بمعونته في استيفاء حقه فلا يبغ ما وراء حقه ولا يخرج من دائرة أمرة الناصر.وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد أن الضمير للمقتول على معنى أن الله تعالى نصره في الدنيا بأخذ القصاص أو الدية وفي الأخرى بالثواب فلا يسرف وليه في شأنه، وجوز أن يعود على الذي أسرف به الولي أي أنه تعالى نصره بإيجاب القصاص والتعزيز والوزر على من أسرف في شأنه، وقيل ضمير يسرف للقاتل أي مريد القتل ومباشرة ابتداء ونسبه في الكشاف إلى مجاهد، والضميران في التعليل عائدان على الولي أو المقول، وأيد بقراءة أبي: {فَلا تُسْرِفُواْ} لأن القاتل متعدد في النظم في قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ} والأصل توافق القراءتين، ولم تعينه لأن الولي عام في الآية فهو في معنى الأولياء فيجوز جمع ضميره بهذا الاعتبار ويكون التفاتًا، وتوافق القراءتين ليس بلازم، والمعنى فلا يسرف على نفسه في شأن القتل بتعريضها للهلاك العاجل والآجل.وفي الكشف أنه ردع للقاتل على أسلوب {وَلَكُمْ فِي القصاص حياة} [البقرة: 179] والنهي عن الإسراف لتصوير أن القتل بغير حق كيف ما قدر إسراف، ومعناه فلا يقتل بغير حق وأنت تعلم أن هذا الوجه غير وجيه فلا ينبغي التعويل عليه، وهذه الآية كما أخرج غير واحد عن الضحاك أول آية نزلت في شأن القتل وقد علمت الأصح أنه أكبر الكبائر بعد الشرك، وكون القتل العمد العدوان من الكبائر مجمع عليه، وعد شبه العمد منها هو ما صرح به الهروي وشريح الروياني، وأما الخطأ فالصواب أنه ليس بمعصية فضلًا عن كونه ليس بكبيرة فليحفظ. اهـ.
فلتحذير المسلمين من آثار هذه الخواطر ذكروا بتحريم الوأد وما في معناه.وقد كان ذلك في جملة ما تؤخذ عليه بيعة النساء المؤمنات كما في آية سورة الممتحنة.ومن فقرات أهل الجاهلية: دفن البنات من المكرمَات.وكلتا الحالتين من أسباب قتل الأولاد تستلزم الأخرى وإنما التوجيه للمنظور إليه بادىء ذي بدء.الوجه الثاني:فمن أجل هذا الاعتبار في الفَرْق للوجه الأول قيل هنالك {نحن نرزقكم وإياهم} بتقديم ضمير الآباء على ضمير الأولاد، لأن الإملاق الدافع للوأد المحكي به في آية الأنعام هو إملاق الآباء فقدم الإخبار بأن الله هو رازقهم وكمل بأنه رازق بناتهم.وأما الإملاق المحكي في هذه الآية فهو الإملاق المخشي وقوعه.والأكثر أنه توقع إملاق البنات كما رأيت في الأبيات، فلذلك قُدم الإعلام بأن الله رازق الأبناء وكُمل بأنه رازق آبائهم.وهذا من نكت القرآن.والإملاق: الافتقار.وتقدم الكلام على الوأد عند قوله تعالى: {وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم} في سورةة [الأنعام: 137].وجملة {نحن نرزقهم} معترضة بين المتعاطفات.وجملة {إن قتلهم كان خطأ كبيرًا} تأكيد للنهي وتحذير من الوقوع في المنهي، وفعل {كان} تأكيد للجملة.والمراد بالأولاد خصوص البنات لأنهن اللاتي كانوا يقتلونهن وأدًا، ولكن عبر عنهن بلفظ الأولاد في هذه الآية ونظائرها لأن البنت يقال لها: ولد.وجرى الضمير على اعتبار اللفظ في قوله: {نرزقهم}.والخِطء بكسر الخاء وسكون الطاء مصدر خطىء بوزن فرح، إذا أصاب إثمًا، ولا يكون الإثم إلا عن عمد، قال تعالى: {إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين} [القصص: 8] وقال: {ناصية كاذبة خاطئة} [العلق: 16].وأما الخَطَأ بفتح الخاء والطاء فهو ضد العمد، وفعله: أخطأ، واسم الفاعل مُخطئ، قال تعالى: {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم} [الأحزاب: 5].وهذه التفرقة هي سر العربية وعليها المحققون من أيمتها. وقرأ الجمهور: {خطأ} بكسر الخاء وسكون الطاء بعدها همزة، أي إثمًا.وقرأه ابن ذكوان عن ابن عامر، وأبو جعفر: {خَطَأ} بفتح الخاء وفتح الطاء. والخطأ ضد الصواب، أي أن قتلهم محض خَطأ ليس فيه ما يعذر عليه فاعله. وقرأه ابن كثير: {خِطَاءً} بكسر الخاء وفتح الطاء وألف بعد الطاء بعده همزة ممدودًا. وهو فعال من خَطِىء إذا أجرم، وهو لغة في خِطْء، وكأن الفعال فيها للمبالغة. وأكد ب {إن} لتحقيقه ردًا على أهل الجاهلية إذ كانوا يزعمون أن وأد البنات من السداد، ويقولون: دفن البنات من المَكرمات. وأكد أيضًا بفعل {كان} لإشعار {كان} بأن كونه إثمًا أمرًا استقر.{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)}.عطف هذا النهي على النهي عن وأد البنات إيماء إلى أنهم كانوا يعدون من أعذارهم في وأد البنات الخشية من العار الذي قد يلحق من جراء إهمال البنات الناشىء عن الفقر الرامي بهن في مهاوي العهر، ولأن في الزنى إضاعة نسب النسل بحيث لا يعرف للنسل مرجع يأوي إليه وهو يشبه الوأد في الإضاعة.وجرى الإضمار فيه بصيغة الجمع كما جرى في قوله: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق} [الإسراء: 31] لمثل ما وجه به تغيير الأسلوب هنالك فإن المنهي عنه هنا كان من غالب أحوال أهل الجاهلية.وهذه الوصية الثامنة من الوصايا الإلهية بقوله تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} [الإسراء: 23].والقرب المنهي عنه هو أقل الملابسة، وهو كناية عن شدة النهي عن ملابسة الزنا، وقريب من هذا المعنى قولهم: ما كاد يفعل.
|